قصة قصيرة شاعر الشعب

قصص أدبية قصيرة رائعة مكتوبة باتقان بقلم سلام اليماني من الكتاب الجميل اللؤلؤة
كان الملكُ غاضباً ثائراً حاقداً مقهوراً بكلِّ معنى الكلمة. صبَّ غضبَه عنيفاً على قائدِ الجيشِ واصِفاً إيّاهُ بالجبن والتخاذل، وقرّعَهُ باللومِ تقريعاً شديداً، وأطلقَ في وجهِهِ حُمَماً ناريّةً من التهديدِ والوعيد، وكانَ مما قالَهُ في تلك الساعة:

-للمرةِ الثالثةِ ينهزمُ جيشُنا أمامَ الأعداءِ وأنتَ المسؤولُ

فماذا ينقصُ جيشَنا ويمنعُهُ من النصر؟ عدَدُهُ كبير، وسلاحُهُ جيّدٌ، وتدريباتُهُ عنيفةٌ متواصلة، فماذا يحتاجُ بعدَ هذا لينتصر؟

ظلّ قائدُ الجيشِ صامتاً لا يدري ما يقول. أمّا الوزيرُ الذكيُّ فبادرَ يقول: مولايَ الملكَ المعظّم، جنودُنا يفتقرونَ إلى الحماسةِ الوطنيّة. والحماسةُ يا مولايَ ليست طعاماً نطعمُهم إيّاهُ ولا سلاحاً نزوّدُهم به. الحماسةُ شعورٌ في النفْس، والشعورُ يُضرِمُهُ الشِّعرُ كما تُضرِمُ النارُ الحطب.

قال الملكُ متحمّساً للفكرة: أحضروا شاعرَ الشعبِ الآنَ في الحال.

بعدَ ساعةٍ واحدةٍ كان الشاعرُ في حضرةِ الملك، فأمرَهُ بحزمٍ ووضوح: اذهبْ إلى جنودِنا الآنَ في مواقعِهم على الجبهة، وأنشدْهم شعراً يُضرِمُ فيهم حبَّ الوطنِ والحماسة لانتصاره.

قال الشاعرُ بثقةٍ واحترام: أمرُ مولاي. فقال الملك: اسمعْ أيها الشاعر: إذا انهزمَ جيشُنا فسوف أقطعُ رأسَك، أمّا إذا انتصرْنا فلَكَ منّي جائزةٌ ضخمةٌ من الذهب.

قال الشاعر: لن أفكّرَ الآنَ في الجائزة، وسأُلْهِبُ قلوبَ جنودِنا بحبِّ الوطن.

وانطلقَ الشاعرُ إلى تجمّعاتِ الجنودِ على جبهةِ المواجهةِ مع العدوْ، وبدأ يُنشدَهم قصائدَ رائعةً تعصِفُ بقلوبِهم عصفاً، وتُضرِمُ مشاعِرَهم إضراماً، فكانوا يستعيدونَها ويستزيدونَ منها مرّةً بعدَ مرّة.

لكنّ مُخبِراً من رجالِ الأمنِ السرّيينِ أسرعَ يهمِسُ للملكِ والوزير: هذا الشاعرُ خائنٌ وعميلٌ للأعداء. إنه لا يعلّمُ جنودَنا أناشيدَ تدعو إلى سحقِ الأعداءِ وتمزيقِهم وشُربِ دمائهم بدلَ الماء، بل يُلهيهم بقصائدَ سخيفةٍ تافهةٍ تتغنّى بجمالِ النساء، كي يُفسِدَ عندَهم إرادةَ القتالِ ويتسبّبَ في الهزيمة.

اشتعلَ الملكُ غضباً وأمرَ باعتقالِ الشاعر

كي يُحاكمَ صباحَ اليومِ التالي أمامَ الشعبِ ويُقطَعُ رأسُهُ بِجُرمِ الخيانة.

بعدَ ساعاتٍ قليلةٍ وتحت جُنحِ الليل، صارَ الشاعرُ سجيناً مكبّلاً بالأغلال، متّهماً بأنه خائنٌ ومحرِّضٌ على التخاذُلِ([1]). لكنه كان واثقاً من نفسِهِ ومن أشعارِه، فنامَ ليلتَهُ بينَ اليأسِ والأمل.

في صباحِ اليومِ التالي، تجمَّعَ الناسُ في ساحةِ العاصمةِ، ليشهَدوا محاكمةَ شاعرِهم وقطعَ رأسِه. وعندَ الضُّحى جاءَ حرّاسُ السجنِ يقتادونهُ مُكبَّلاً بالأغلال، وحضرَ الملكُ في موكِبٍ عسكريٍّ مَهيب([2])، يتقدّمُهُ الطبّالونَ والزمّارونَ ويحيطُ به الوزيرُ وقائدُ الجيشِ والحاشيةُ([3]) والحرسُ المسلّحون. وأمامَ الموكبِ كلِّهِ يسيرُ السيّافُ شاهراً سيفَهُ الضخمَ الرهيب.

توقفَ الموكبُ في جانبٍ من الساحةِ وهتفَ الوزير

باسمِ الوطنِ والعدالة، نعاقبُ هذا الشاعرَ بجريمةِ الخيانة، لأنهُ لم يحرّضْ جنودَنا على الحماسةِ الوطنيّة.

كانت صدمةً هائلةً للناس، فقد اعتادوا على حبِّهم للشاعرِ وحبِّهِ لوطنِه، فبدؤوا يهتِفونَ بأصواتٍ قويّةٍ مختلِطة: أخبِرونا ماذا فعل؟ ماذا فعل؟ فرفعَ الوزيرُ يدَهُ وصاحَ رئيسُ الحرسِ: اسكتوا، فسكتَ الناسُ مترقِّبين.

قال الملكُ للشاعر: ماذا أنشدْتَ الجنودَ أيها الشاعر؟

قال الشاعر: أنشدتُهم عن جمالِ الأرضِ والينابيعِ والشجرِ، عن أزهارِ الربيعِ وفراشاتِه اللطيفة، عن ابتسامات الأطفالِ ولذّةِ الخبزِ الساخن، عن حنانِ الأمّهاتِ وكَدْحِ الآباءِ وحِكمةِ الأجداد. أليس هذا هو الوطنُ يا مولايَ بل أروعُ ما في الوطن؟

ارتبَكَ الملِكُ واحتارَ فيما يقول. لكنّ الوزيرَ الذي لا يكذّبُ رجالَ أمنِهِ السِريّينَ هتفَ بالشاعر:

-والنساءُ الجميلاتُ أيّها الشاعر، ألَمْ تتغزَّلْ بجمالِ النساء؟

-وهل تريدُ أن أتغنّى بجمالِ الشجرِ وأنسى جمالَ البشر؟ أليسَ جمالُ النساءِ بعضَ جمالِ الوطن؟

وأدركَ الناسُ حاجتَهُ للمساعدة فصاروا يهتفون:

-أشعارُهُ وطنيّة. أشعارُهُ ليست خيانة.

هذه المرّةَ احتارَ الملكُ والوزيرُ كلاهُما، ونظرَ كلّ منهما إلى الآخَر كأنه يسألُهُ: ما العمل؟ وأخيراً هتف الملك:

-اسمعْ أيها الشاعر: لقد وعدتُكَ بالثّوابِ إذا انتصرْنا، وبالعِقابِ إذا انهزمْنا، وإلى أن تقع المعركةُ ونعرفَ نتيجتَها ستبقى في السجن.

ثم أمرَ رجالَ الحرس:

-خذوه.

وأسرعَ الوزيرُ يخاطبُ الشعب:

-وأنتم تفرَّقوا، كلٌّ إلى عملِه.

×××××

بعدَ أيّامٍ قليلةٍ هجمَ جنودُ الملكِ على الأعداء

ولم تمضِ بضعُ ساعاتٍ حتى كانت جيوشُ الأعداءِ تنهزمُ مسحوقةً مشتّتة، وكانَ جنودُ الملكِ يرفعونَ راياتِ النصرِ ويهتِفونَ هُتافاتِ الفرحِ العظيم. ثم استسلمَ قادةُ الأعداء، ووقّعوا ميثاقَ صلحِ دائمٍ وعدَمِ اعتداء.

وفي غَمْرة احتفالِ القصرِ المَلكيِّ بالنصرِ أمرَ الملكُ فأحضروا الشاعرَ من السجنِ حُرّاً من الأغلال، وخلالَ الطبولِ والزمورِ تقدَّمَ الملكُ وسْطَ حاشيتِهِ وألقى للشاعرِ بكيسٍ مخمَليٍّ فيه خمسُمئةِ دينارٍ من الذهب.

أخذَ الشاعرُ الكيسَ وانحنى للملكِ قائلاً: أمرُ مولاي. فانبرى الوزيرُ يوبِّخُه:

-هكذا أيّها الشاعرُ تقولُ كلمةً واحدة؟!

قال الشاعر:

-خيرُ الكلامِ ما قلَّ ودلَّ.

فهتفَ بهِ الوزيرُ بلهجةٍ آمرة:

-بلْ يجبُ أن تنشئَ قصيدةً طويلةً وتشكرَ مولانا على عدالتِه.

قالَ الشاعرُ هادئاً وواثقاً بنفسِه:

-لو انهزمَ جيشُنا لقطعتم رأسي فأينَ العدالة؟ وهل أنا مُجبَرٌ على ضَمانِ انتصارِ الجيش؟

ذُهِلَ الجميعُ من هَولِ المفاجأةِ وتابعَ الشاعر:

– وهل يُضمَنُ النصرُ بمئة قصيدةٍ أو ألفِ قصيدة؟

قال الملكُ وهو يرتعِشُ من الغضب:

-لو أنّ من أخلاقِ الملوكِ أن يتراجعوا عن عطاياتهم لسحبْتُ منكَ المكافأة، فخذْها وانصرِفْ دونَ كلام.

قال الشاعر: أمرُ مولاي. وسوف أوزّعُ الذهبَ على الناسِ باسمِك، كي يُفرِحوا الأطفال.

([1])  التخاذل: الحضّ على الجبنِ وتركِ القتال.

([2])  ذو هَيبة.

([3])  حاشية الملك هم أصدقاؤه وأتباعُهُ المقرَّبون.


0 تعليق

اترك تعليقاً

عنصر نائب للصورة الرمزية (Avatar)

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *